فن

نيكولاس كيج: الأمير المتوج لممالك العبث المظلمة

هل تحول الممثل الحائز على الأوسكار إلى مجرد مزحة؟ هل كيج ممثل سيئ بشكل لا يمكن إصلاحه كما وصفه بعض نقاده، أم كما يراه آخرون أحد أفضل الممثلين الأحياء؟

future الممثل الأمريكي نيكولاس كيج

«غالباً ما توجد قوائم تضم نجوم السينما العظماء الأحياء؛ ستجد عادة دي نيرو، نيكلسون وباتشينو. كم مرة ستجد اسم نيكولاس كيج؟! أعتقد أنه يجب أن يتواجد في هذا القوائم دائماً».

— روجر إيبرت

لماذا أحب نيكولاس كيج؟ هناك ممثلون يَعلقون بالروح أكثر من غيرهم دون سبب واضح، هناك شيء يخص هالتهم يجعلهم أقرب للقلب. لديَّ أيضاً ضعف خاص تجاه الممثلين الذين تعلقت بهم في بداية محبتي للسينما، وكيج واحد منهم. أصدق أيضاً أن كيج ممثل ذو موهبة هائلة وتفرد واضح.

لا أستطيع التفكير الآن في ممثل آخر مثل نيكولاس كيج قادر على إثارة حيرتنا وإرباكنا بشأن أفكارنا عن التمثيل الجيد.

نيكولاس كيج من فيلم Vampire's Kiss

تحول الممثل الحائز على الأوسكار مع غلبة ثقافة الميم إلى ميم مثالي بانفعالاته الغريبة وحجم أدائه الذي يبدو مبالغاً فيه. هل تحول الممثل الذي عمل مع أفضل مخرجي السينما، من الأخوين كوين وديفيد لينش إلى سكورسيزي وهيرتزوج، إلى مجرد مزحة؟ هل كيج - كما يصفه بعض نقاده - ممثل سيئ بشكل لا يمكن إصلاحه، أم كما يراه ناقد بحجم إيبرت أحد أفضل الممثلين الأحياء؟

تحولات مسيرة غير تقليدية للغاية

نيكولاس كيج من فيلم Birdy

جسَّد كيج في بداياته الأولى شخصيات متمردة لمشاغبين غريبي الأطوار عبر أفلام صغيرة يغلب عليها روح السينما المستقلة مثل birdy وRaising Arizona. وضع في خانة الممثل غريب الأطوار والطليعي، إذا كان هناك شخصية غريبة الأطوار تحتاج لممثل شجاع فسيكون كيج هو الخيار الأول. وصفته صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية بالأمير المتوج لممالك العبث المظلمة بعد دوره في فيلم لينش Wild at Heart الفائز بأفضل فيلم في مهرجان كان 1990.

تحول كيج لاحقاً مع مطلع التسعينيات لنجم لعدد من الكوميديات الرومانسية المتفائلة أبرزها It Could Happen To You، قبل أن يصنع أحد أكثر أفلامه قتامة Leaving Las Vegas، الذي منحه أوسكاره الوحيد حتى الآن، وهو دور رفضه أغلب نجوم هوليوود آنذاك، لكنه فتن كيج. رفض الدور الذي لعبه جيف دانييلز في فيلم Dumb and Dumber من أجل هذا الدور في هذا الفيلم المستقل محدود الميزانية. وجد كيج مساحة كبيرة من الحرية في لعب دور رجل يتخلى عن كل شيء ليموت. كان إغراء الشخصية واضحاً لكيج الذي يستمتع بالخروج عن المألوف. سمح له دور سكير لا يفيق من سكره بحرية التجريب والانطلاق.

نيكولاس كيج من فيلم Bringing Out the Dead

مع نهاية التسعينيات، كان كيج قد تحول لأحد أهم نجوم سينما الحركة في هوليوود عبر عدد من الأفلام الناجحة ومتقنة الصنع مثل The Rock وFace/Off. لكن حتى في ذروة نجاحه في سينما الحركة نجده يحرص على العمل مع سكورسيزي في فيلم Bringing Out The Dead مقدماً واحداً من أكثر أداءاته اختلافاً وتميزاً. يؤدي كيج مع سكورسيزي دور مسعف يعاني من أرق مستفحل، غارقاً في ليل نيويورك وخطاياها. يمكنك فقط أن تنظر إلى وجهه لتقرأ واضحاً تاريخ روحه وعذاباته.

خلال أكثر من عقدين متتاليين لم يتوقف كيج عن التجريب، كان دائماً ما يخاطر دون أي اعتبار لحسابات النجومية. لقد خلق مساراً مهنياً يحير أي شخص يحاول اتباعه. إنه أحد أكثر الممثلين إثارة للاهتمام، سواءً في اختياراته أو طريقة أدائه، حتى في أسوأ أفلامه يجلب كيج شيئاً أصيلاً إلى دوره، بغض النظر عن عدد المرات التي سئمت فيها الصناعة من جنونه الذي يبدو حقيقياً، ومشاكله المالية، فإنه يعيد اختراع نفسه من جديد.

نيكولاس كيج من فيلم Pig

في السنوات الأخيرة يبدو كيج وكأنه عاد إلى سيرته الأولى عبر خيارات لأفلام صغيرة مستقلة، مثل Pig وDream Scenario، تمنحه مساحة للتجريب والإبداع. إنه يتبع قلبه في كل الأحوال.

محاولة فهم مبالغات كيج الأدائية

تتعلق دائماً انتقادات كيج كممثل بفكرة المبالغة في الانفعالات عبر أداءات جامحة توصف بأنها Over The Top. في مقالها «مفهوم الإفراط في التمثيل السينمائي: ملاحظات نحو فهم الأداء غير الطبيعي»، تزعم كارول زوكر أن الغرض من التمثيل، أو الأداء، هو نقل الحوارات والانفعالات بطريقة تلمس المشاهد وتخلق تواصلاً معه. تقر بأن الواقعية أو الطبيعية في الأداء تجعل هذا التواصل أفضل. لكن هل تظل حدود ما هو طبيعي في الأداء ثابتة أم تتبدل مع تغير عالم الفيلم؟ هل يمكن أن نصف أداء جاك نيكلسون العظيم في بريق كوبريك بأنه طبيعي؟

ماذا عن أداء كيج في فيلمه قبلة مصاص الدماء الذي يجلب انقساماً واضحاً بشأنه، يراه البعض أحد أفضل أداءاته والبعض الآخر يراه مبالغاً فيه حتى السخف. عالم قبلة مصاص الدماء مشوه وغير طبيعي، حيث يجسد كيج شخصية بيتر لوي، وهو وكيل أدبي يفقد عقله ببطء، تبتلعه فكرة مفادها أنه مصاص دماء حقيقي.

يعتبر كيج هذا الفيلم مثل مختبر جرب فيه كل ما يحلم به عن شكل الأداء الذي يتوق إليه في السينما. خطط بدقة لكل شيء بداية من اللهجة والحركة وصولاً لانفعالاته الغريبة. يخبرنا كيج في التعليق الصوتي للفيلم: «لقد فكرت في كل هذه الحركات في غرفتي بالفندق مع قطتي».

يعبر حجم انفعالاته عن مزيج من اليأس والبؤس في محاولة تعويض مفرط لما يفتقده. إنها إيماءات تحاول أن ترسم مظهراً كاريكاتورياً بالقوة والسيطرة لشخص يدرك بعمق هشاشته وفقدان السيطرة على عالمه. عندما يحاول لوي إظهار قوته وسلطته على سكرتيرته فإنه يستعيد عبر أدائه شخصية نوسفيراتو من فيلم الرعب التعبيري الذي يحمل نفس الاسم، مستبطناً انفعالاته وطريقة حركته في مطاردة فريسته. هذا أداء متحدٍّ ويمتلك وعياً واضحاً بطبيعة الشخصية التي يؤديها.

يمتلك كيج شهية واضحة لما هو تعبيري، حيث الابتعاد عن الواقعية في مقابل التعبير المتطرف عما هو مشوه وغريب. في فيلمه Moonstruck، يؤدي كيج دور روني كاماريري، وهو خباز فقد يده أثناء العمل ويرتدي يداً خشبية محلها. في لحظة مواجهته خطيبة أخيه بسبب خصومته معه، يكشف عن يده كمن يكشف عن جرحه، يتحدث بينما يحدق فيها. كيج استلهم هذه اللفتة من فيلم متروبوليس لفريتز لانج، حيث يخلع العالم المجنون قفازه عن يده المعدنية.

روني استعراضي، إنه يستعرض جرحه بشيء من الفخر على نحو ما، ولكن تحت هذا الاستعراض مشاعر خزي وحزن ستجدها واضحة في عينيه. لكن لماذا هذه اللفتة التعبيرية؟ لأن جوني يشعر أنه مشوه بسبب جرحه، يشعر أنه وحش، ومن هنا فهذا الاستلهام يمنحه مثل هذه الشعور.

يمكنني أن أقول إن كيج مؤدٍّ بالمعنى الواسع، يجلب إلهامه الخاص من أماكن شتى قل أن تجتمع في مخيلة رجل واحد، كل شيء يمكنه تطويعه لحساب الشخصية التي يؤديها حسب فهمه وإحساسه بها، إنه يطوع داخل أدائه أنماطاً غير معتادة من التعبير من الأوبرا إلى الهيفي ميتال للسينما الصامتة ومسرح الكابوكي، كلها أنماط أداء تعتمد على تضخيم الانفعالات، يخلق من نفسه لوحة تجريدية تعكس الحقيقة الداخلية المشوهة لشخصيات مشوهة.

كيج السوريالي في مواجهة الواقعي

«ما الفائدة من مجرد الحصول على مراجعات جيدة؟ في نهاية المطاف أريد الجمهور أن يقول: «حسناً، ماذا كان هذا بحق الجحيم»؟»

— نيكولاس كيج في واحد من حواراته

تنظر السوريالية إلى الواقعية باعتبارها وسيلة محدودة لتصوير الحقيقة، في حين أن الواقعية تفضل التفسيرات التي تحاكي الشكل الخارجي لما هو حقيقي، فإن السوريالية تسعى إثر الحقائق الداخلية التي تبدو غالباً غريبة ومشوهة.

 بدأ كيج ممثلاً منهجياً Method Acting يميل نحو خيارات متطرفة، قام بخلع سنتيه البنيتين، ارتدى ضمادات حول وجهه في فيلم Birdy، للمخرج آلان باركر، طول مدة التصوير لكي لا تفلت منه شخصية الكولمباتو العائد مشوهاً من فيتنام. يحكي كيج: «كان بإمكاني أن أزيل تلك الضمادات، لكنني لم أفعل. لقد تركتها لمدة خمسة أسابيع»، هكذا قال لصحيفة نيويورك تايمز في عام 1984. «كنت أنام بها، كنت أوقظ نفسي في منتصف الليل وأقول: «لا تنم على هذا الجانب؛ هذا هو الجانب الذي أصيب».»

بدأ كيج يتمرد على ما يسمى واقعية أو طبيعية الأداء، لكن على نحو ما صار هذا الاتجاه يضجره، بات ميالاً تجاه أداءات أكثر جنوحاً وتمرداً، يصر كيج في حواراته على أنه طالما رأى نفسه كسوريالي منذ البداية، كان كيج في هذه الآونة يرتاد معارض لفنانين مثل بيكاسو أو فرانسيس بيكون ويتساءل في نفسه إذا كان يمكننا أن نقدم هذه التعبيرات المشوهة عن الواقع عبر الرسم لماذا، فلا يمكننا أن نفعل ذلك عبر التمثيل؟ إنه يتطلع إلى أساليب تمثيل سينمائي غير تقليدية، مستلهماً أشكال الفن الأخرى، ربما علينا أن نعود إلى طفولة كيج سريعاً لنضع هذا النزوع في سياقه.

كيج ينتمي لعائلة كوبولا الشهيرة، فهو ابن شقيق المخرج السينمائي فرانسيس فورد كوبولا. سيختار نيكولاس في بداية مسيرته أن يغير اسمه من كوبولا إلى كيج المستلهم من بطل القصص المصورة لوك كيج والموسيقي جون كيج.

عانت والدته مصممة الرقصات جوي فوجيلسانج من المرض العقلي لفترات طويلة، ما جعلها أغلب حياتها نزيلة المصحات العقلية. واظب نيكولاس منذ كان في السادسة من عمره على زيارة والدته هناك، كان وقع هذه الزيارات ثقيلاً على نفسه؛ إذ تركته فريسة كوابيس مؤرقة. في أحدها كان رأس والدته على جسد خنفساء، شيء على غرار مسخ كافكا. أثر ذلك ربما على نحو غير واعٍ في تحديد تصوره لما هو حقيقي، راح الطفل يتخيل عالماً خيالياً تكون فيه هذه الشخصيات المحيطة بأمه، كانت معاناة والدته وبقية النزلاء وسلوكهم الغريب تعبيرات غير طبيعية عن حقائق داخلية.

بدأ كيج طريق التجريب مع عمه فرانسيس في فيلم Peggy Sue Got Married، كانت رؤيته لحكاية الفيلم أنها تدور في عالم أشبه بالأحلام، أراد أن يشوه المظهر الطبيعي لشخصيته ركب أسناناً صناعية وراح يلون صوته مثل شخصية كرتونية تدعى بوكي من مسلسل The Gumby Show، كما خلق لنفسه هيئة شبحية، غضب أغلب النقاد والجمهور والمنتجين من أداء كيج، بعد الفيلم لم يرغب أحد في العمل معه مجدداً.

كرهت بولين كايل الفيلم ولكن أعجبها الأداء. كتبت كايل في مراجعتها للفيلم: «كيج ليس ممثلاً سطحياً، إنه يعمل بجد للدخول للشخصية، ويجلب لها شيئاً مؤثراً ويائساً بشأن حقيقتها، رغم أنه شخصية عالية النبرة غريبة وكارتونية، لكنه يبدو على نحو حقيقي واقعاً في حب بيجي سو».

كانت شير أيضاً التي ستشاركه بطولة فيلمه Moonstruck قد جذبها على نحو ما أداؤه في هذا الفيلم، لدرجة أنها لم تتخيل ممثلاً آخر في دور روني كاماريري، وفرضته على الجميع.

حين تشاهد كيج وهو يمثل ستجده دائماً في إهاب شخصيات تتفجر، ومع كل أداء جديد نرى الشكل الذي تتخذه طاقته غير المستقرة إلى حد كبير، نتأمل الظلال التي بداخله وهي تقفز من الظلمة إلى كل جسد يملكه.

الأداء الطبيعي لا يستطيع أن يستوعب مثل تلك الطاقة المتفجرة لهذه الشخصيات. أعتقد أنه لا يمكننا فصل كيج عن الشخصيات التي يلعبها.

رقصة القفز بين المتناقضات

يبرع كيج على نحو مبهر في تجسيد التناقض والازدواجية داخل شخصياته في فيلمي Face/Off عام 1997 وAdaptation عام 2002، وهما من الأفلام التي غالباً ما تصنف ضمن أفضل أداءاته.

يجسد كيج الازدواجية على نحو حرفي، حيث يلعب دور البطل ونقيضه. في Face/Off لجون وو يجسد كيج دور مجرم خطر والضابط الذي يطارده بكل تعقيداتهما. في فيلم Adaptation، من كتابة تشارلي كوفمان وإخراج سبايك جونز يلعب كيج دور توأم على طرفي نقيض في صفاتهما الشخصية، أحدهما كئيب ومفرط في نقده لذاته، والآخر مرح وهادئ ومتفائل. في الحقيقة لغة الجسد وحدها التي يصممها لكل شخصية تستحق التقدير والدراسة، مثل هذه الأداءات الأكروباتية تثبت موهبته الكبيرة.

يتعامل كيج مع الأداء مثل رقصة تحتاج إلى إيقاع خاص، وهذه الاستلهامات متباينة المصدر هي ما يضبط إيقاع رقصته. الطريقة التي يتحرك بها في فيلم ديفيد لينش مثلاً مازجاً بين حركات ألفيس الراقصة وحركات بروس لي الدفاعية هي رقصته الأدائية الخاصة، لا أحد يمكن أن يمزج بين هذين النوعين من الحركات المتنافرة بهذا التناغم مثل كيج.

أداء كيج يمتلك وعياً ذاتياً بنفسه، كأنه يغمز لمشاهديه: «انظروا إليَّ، أنا أمثل!» مثل هذه النوعية من الأداء لا تمنحنا أي وهم بالعفوية، إنه في حالة كسر دائم للحائط الرابع.

خلال لقاء مع كيج في برنامج Inside The Actors Studio يخبر مضيفه جيمس أنه حين سيلتقي الله عند البوابات اللؤلؤية - التي تقود للأبدية - فإنه يأمل أن تكون تحيته: «بوركت على المحاولة». يظل كيج حتى هذه اللحظة ممثلاً يصعب التنبؤ به، سواء في اختيار أدواره أو طريقة أدائها؛ لأنه لم يتوقف حتى هذه اللحظة عن المحاولة.

# نيكولاس كيج # السينما العالمية # سينما # فن

رامي صبري وويجز: بين رقم 17 ورقم 40
فيلم «The Substance»: رعب أن تمتلك جسداً
فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية

فن